الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويقولون لا ورب الكعبة، ويريدون وربها وفائدتها التأكيد، ويجوز حذفها في غير القرآن، وما قيل إنها زائدة لا أصل له، فضلا عن ضعفه إذ لا زائد في كتاب اللّه لأن كل حرف فيه له معنى لا يتأتي الكلام بدونه كاملا، وما استدل من قوله تعالى: {لِئلّا يعْلم أهْلُ الْكِتابِ} الآية الأخيرة من سورة الحديد، مردود لأن لها مغزى هناك ستقف عليه عند تفسيرها، فضلا عن أنها وسط الكلمة لا في أولها كهذه وكونها ليست للقسم لتفيد المعنى المطلوب في هذه التي للقسم، فهي هناك نافية، وقد تأتي زائدة في أقوال العرب لضروره الوزن في نظم أشعارهم كقوله: أما في القرآن فلا، وانظر إلى ما قاله الفراء: إن لا هنا ردّ لانكار المشركين البعث المار ذكره في السورة قبلها لأنه مما يناسب تتابع السور، إذ قد يكون غالبا مناسبة بين الأولى والثانية بعدها من كلمة أو جملة مما ينتبه له من له المام بمعاني كتاب اللّه فكأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من جحود القيامة وعذابها ثم قال أقسم.وقرأ ابن كثير {لأقسم} بلام التوكيد ولا يرد على هذا القول من قال ان لام التأكيد لابد وأن يصحبها نون التوكيد لأنها تفارقه أحيانا وكلاهما وجيه، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى أقسم بيوم القيامة {ولا أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامةِ 2} إلا إعظاما وتفخيما لهما يكون الغرض إجلال القسم به وتبجيله والأول أولى، وهذا كله تحاشيا عن القول بأنها زائدة إذ ما من حرف في القرآن إلا ويؤدي معنى خاصا، و{اللوامة} النفس التي تلوم صاحبها بعد إيقاعه الفعل المنهي عنه الذي حسنته له والتي تقول له دائما لم فعلت ولم لم تفعل وغيرك يفعل؟
وقرئ {برق} بكسر الراء أي دهش من شدة الفزع {وخسف الْقمرُ 8} ذهب ضوءه بحيلولة الأرض ما بينه وبين الشمس وكذلك كسوف الشمس يكون بحيلولة الأرض بينهما وبين ما تشرق عليه منها.هذا في الدنيا أما بالآخرة وهو المراد هنا فيذهب ضوءه وضوءها ويسقطان يدل عليه قوله: {وجُمِع الشّمْسُ والْقمرُ 9} بطلوعهما معا من جهة المغرب وذهاب نورهما ثم يسقطان كسائر الكواكب راجع أول سورة التكوير المارة وللبحث صلة في سورتي الانفطار والانشقاق، وهذا لا يكون بالحيلولة كما يقوله الفلكيون ولا شيء آخر مما يقوله علماء الهيئة حيث تضمحل هناك المعارف والعوارف أما ما قاله الملاحون ان خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر فهو انكار لقدرة اللّه القادر أن يجعله منخسفا سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن لأن الأجسام متماثلة فيصح على كل منها ما يصح على الآخر، واللّه قادر على كل الممكنات والمستحيلات، ومن جملة قدرته إزالة ضوء القمر في كل حال، ولهذا لما كسفت الشمس يوم موت إبراهيم، وقال الناس إنها كسفت لأجله لأنهم يزعمون أنها تنكسف لموت عظيم، أو لأمر عظيم وحادث خطير، قال صلى الله عليه وسلم: «إنهما- أي الشمس والقمر- لا ينكسفان لموت أحد أو حياته، وإنهما آيتان يخوّف اللّه بهما عباده»، الحديث.قال تعالى واصفا ذلك الوقت العصيب الذي يحار فيه اللبيب، ويذهل عنه البعيد والقريب {يقول الإنسان} المكذب لذلك {يوْمئِذٍ} يوم وقوع هذه الأشياء {أيْن الْمفرُّ} والمهرب والمخلص من هذا فيقال: {كلّا} انزجر وارتدع {لا وزر 11} لا ملجأ يلجأ إليه ولا واق يقي منه راجع الآية (20) من سورة ابراهيم تجد ما يتعلق بهذا، واعلم أن الوزر هو الجبل المنيع، وكل ما يتحصّن به ويلجأ إليه.قال كعب بن مالك: وقال الآخر: وكانوا إذا فزعوا من شيء يلجأون إلى الجبال ولذلك قال ابن نوح عليه السلام: {سآوِي إِلى جبلٍ يعْصِمُنِي مِن الْماءِ} الآية 43 من سورة هود، فتقدم اللّه تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصبهم من عذاب اللّه إلا هو، ولهذا قال: {إِلى ربِّك يوْمئِذٍ الْمُسْتقرُّ 12}، أي يكون قرار خلقه يوم فرارهم إليه، وخلاصهم منوط به وحده، لا يشاركه أحد، وهو إما إلى الجنة أو النار لا توسط بينهما، أما أهل الأعراف فسيأتي بيانهم في الآية 46 من سورتهم الآتية، قال تعالى حينذاك {يُنبّؤُا الإنسان يوْمئِذٍ} يوم الحساب والجزاء {بِما قدّم} من أعماله الحسنة والسيئة {وأخّر 13} من آثاره كسنة حسنة سنّها أو وصية خير أوصى بها أو وقف، أوقفه في دنياه، فيفهم هل أراد به وجه اللّه تعالى، فإن كان فيوضع في جملة أعماله الصالحة، وإلا فإن كانت النيّة سيئة والوصية لحب المال، أو كراهية بالورثة أو رياء، فيكون في جملة أعماله الطالحة، ومما يعد مؤخر الولد ان كان صالحا انتفع به وإلا لا، ومما يدل على حسن النية وسوئها قوله عز قوله: {بلِ الإنسان على نفسه} وكافة جوارحه {بصِيرة 14} شاهد لا يحتاج إلى الإشهاد عليه، فهو يعلم مغزى ما يفعل وما يقدم وما يؤخر، والهاء في بصِيرة للمبالغة كعلامة وشهامة فالسمع يشهد بما سمع، والبصر بما ابصر، واليد بما بطشت، والرجل بما مشت، والأنف بما شم، والفم بما ذاق وتكلم، وهكذا فلا يظن انه ينجو إذا كان عمله لغير اللّه: {ولوْ ألْقى معاذِيرهُ 15} كلها بأنواعها وأجناسها فلا ينفعه ذلك لأن شاهده من نفسه قال تعالى: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ} الآية 24 من سورة النور ومثلها في فصلت الآية 22 وقال تعالى: {كفى بِنفْسِك الْيوْم عليْك حسِيبا} الآية 14 من الإسراء الآتية وانشد الفراء بما يلائم هذا: وفسر بعضهم المعاذير بالستور وعليه يكون المعنى ولو أرخى ستوره عند ارتكاب المعاصي لئلا يراه أحد فاللّه يراه وتشهد عليه جوارحه وجاء العذار بمعنى الستر، ومنه سمى الشعر الثابت ما بين الأذن والوجه عذار، ومنه عذار الفرس فانه يستر جزءا من وجهها والأول أولى وأنسب بالمقام، ثم التفت جل شأنه يخاطب رسوله بما يراه يعالجه حين تلقى الوحي فقال: {لا تحرك به} أي القرآن حينما تتلقاه من جبريل {لِسانك لِتعْجل به 16} وتسيء تلاوته على اثر فراغك من سماعه لتوقره في صدرك خشية نسيأنه كلا لا تخف هذا {إِنّ عليْنا جمْعهُ} وإثباته في لبّك الآن وفي المصاحف بعد، حتى لا يفلت منه حرف {وقرآنه 17} وعلينا وبكفالتنا قراءته بلسانك على قومك وان يقرأه من بعدك إلى قرب أن نرث الأرض ومن عليها {فإِذا قرآناهُ} عليك يا حبيبي بواسطة أميننا جبريل {فاتّبِعْ قرآنه 18} قراءته واستمع لها وأنصت فهذا الذي عليك {ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ 19} لك وان كان صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي يحفظ ما ينزل عليه، الخمس آيات والأقل والأكثر ولما حمي الوحي احتاج إلى شدة اجتهاد به حرصا على ان لا ينسى منه شيئا، وكان لشدة حرصه على وحي ربه حال سماعه يتلوه اثر سماعه وإذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عنه فقال له ربه لا تتعب نفسك بشيء تكفلنا لك بحفظه وبيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، هذا (وقرآنه) في الآيتين بمعنى القراءة وهي لغة معروفة عند العرب قال ضحوا بأشمط غوان السجود له يقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة.روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «كان صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان مما يحرك شفتيه».قال ابن جبير قال ابن عباس «أنا أحركهما كما كان صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه فحرك شفتيه فأنزل اللّه هذه الآية، وكان بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه كما قرأه».وفي رواية «كما وعده اللّه»، ورواه البغوي من طريق البخاري بزيادة «يحرك لسانه وشفتيه بشدة وكان يعرف منه».وفيه «فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده».لذلك فإن هذه الآية كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كما ترى {كلّا} حقا انكم لا تميلون إلى الآجلة {بلْ تُحِبُّون الْعاجِلة 20} الفانية فتنهكون فيها {وتذرُون الْآخِرة 21} الباقية فلا تلتفتون إليها وكان الأحرى بكم العكس {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ} يوم تكون الآخرة التي اخترتم الدنيا عليها {ناضِرةٌ 22} حسنة ناعمة جميلة مضيئة مسرورة بما رأت {إِلى ربها} في جنته العالية {ناظِرةٌ 23} مبصرة مشاهدة عيانا بلا حجاب ولا كيفية ولا كمية ولا ثبوت جهة أو مسافة.قال في بدء الأمالي: ومن قال ان {ناظرة} بمعنى منتظرة، فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته بل تقول نظرت فلانا أي انتظرته قال الحطيئة: وعليه إذا قلت نظرت إليه فلا يكون إلا بالعين، أما إذا قلت نظر بالأمر احتمل معنى تفكر وتدبر بعقله ولأن الوجه إذا وصف بالنظر لا يحتمل غير الرؤية ولا يعدى بإلى إلا إذا كان بمعنى الرؤية.
|